المؤشرات الأميركية تتراجع وسط تفاقم سردية "فقاعة" الذكاء الاصطناعي
حافظت “وول ستريت” على مسار صعودي متواصل منذ انهيار أبريل، ما أثار مخاوف من أن السوق بلغت مرحلة تشبع شرائي، وسط دعوات لالتقاط الأنفاس في وقت لا تزال فيه استراتيجية “شراء التراجع” راسخة بقوة.
لا يحتاج أحد إلى كثير من الجهد لاكتشاف التحذيرات من تضخم تقييمات السوق بعد صعود نسبته 36% من قاع أبريل، وصولاً إلى مستويات تُقارن عادة بفترات “التفاؤل المفرط” في الأسواق.
ورغم أن سردية الذكاء الاصطناعي أبقت أسواق الأسهم في حالة انتصار، فإن الأحاديث المتزايدة عن “فقاعة” محتملة في القطاع الذي قاد مسار السوق الصاعدة، جذبت اهتمام المستثمرين حول العالم.
إشارات تشبع وتعب في الزخم
قال كيث ليرنر من “تروست أدفايزوري سيرفيسز”: “رغم أن بعض مناطق السوق تبدو مفرطة النشاط، فإن المعنويات العامة لا تعكس التفاؤل المفرط الذي يُرى عادة في ذروة السوق”.وأضاف: “لكن امتداد فترة الصعود من دون أي تصحيح ملموس، يجعل السوق أكثر حساسية تجاه المفاجآت السلبية”.
أما كريغ جونسون من “بايبر ساندلر”، فأشار إلى أنه من الحكمة توخي الحذر حيال الأسهم التي تبدو متضخمة على المدى القصير، لافتاً إلى أن اتساع السوق يُظهر بوادر تعب قد تقود إلى مرحلة تقليص.
تراجع مؤشر “إس آند بي 500” إلى نحو 6,735 نقطة، فيما ارتفع عائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات ثلاث نقاط أساس إلى 4.14%. وسجل الدولار أعلى مستوى له في 10 أسابيع، بينما قفزت الفضة إلى 50 دولاراً للأونصة للمرة الأولى منذ أزمة الأخوين هانت في عام 1980. أما النفط فانخفض وسط تراجع التوترات في الشرق الأوسط.
كما تابع المتعاملون تصريحات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي، إذ دعا المحافظ مايكل بار إلى اتباع نهج حذر في خفض أسعار الفائدة، بينما أيد رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، جون ويليامز، مزيداً من التيسير، قائلاً لصحيفة “نيويورك تايمز” إنه يراقب عن كثب سوق العمل.
دورة صعود طويلة ولكن حذرة
أشار ليرنر إلى أن هذه الدورة الحادية عشرة من ارتفاع السوق منذ عام 1957، إذ ارتفع مؤشر “إس آند بي 500” بنحو 90%، وهو أقل من متوسط المكاسب البالغ 108% في الدورات السابقة، مضيفاً أن سبعة من بين عشرة أسواق صاعدة سابقة تجاوزت مدتها ثلاث سنوات.
وقال: “رغم ارتفاع التقييمات واستمرار المخاطر، فإن مزيج النمو الاقتصادي المستمر، والأرباح القوية للشركات، والسياسات الداعمة، يوفر أساساً متيناً للحفاظ على موقف إيجابي، ونحن نتجه إلى العام الرابع من هذه الدورة”.
من جهتها، قالت شركة “بيسبوك إنفستمنت غروب”: “يبدو دائماً من غير المنطقي ضخ أموال في السوق عندما تتداول عند مستويات قياسية”، مضيفة: “كما يقول المحللون البارعون، الأموال السهلة جرى تحقيقها بالفعل (رغم أنهم لم يقولوا قبل عام إن الأموال السهلة على وشك أن تتحقق)”.
وأوضحت الشركة أنه منذ عام 1953، حين بدأ أسبوع التداول الخماسي بصيغته الحالية، كانت عوائد مؤشر “إس آند بي 500” بعد الإغلاق عند قمم قياسية، أقل إيجابية بقليل من متوسط العائد العام منذ ذلك الحين، مضيفة أن “أفضل استراتيجية للمستثمرين السلبيين هي عدم المبالغة في التفكير”.
التركّز في أسهم التكنولوجيا الكبرى
تفاقمت المخاوف في النصف الأفضل من سوق الأسهم الأميركية الصاعدة، لا سيما بشأن تركيز شركات التكنولوجيا الكبرى التي دفعت تقييمات “إس آند بي 500” إلى مستويات تشبه “الفقاعة”.
ورغم أن التقييمات ليست أداة مثالية لتوقيت السوق، فإن ارتفاع مجموعة “العظماء السبعة” (أبل، إنفيديا، أمازون، ألفابت، ميتا، مايكروسوفت، تسلا) بنحو 260% منذ بداية موجة الذكاء الاصطناعي أواخر 2022، أثار جدلاً حول مدى قدرة هذه الموجة على مواصلة تغذية صعود الأسهم.
لم يسبق أن أُنفِق هذا الكمّ من المال بهذه السرعة على تكنولوجيا لا تزال، رغم إمكاناتها، غير مثبتة تماماً كمصدر للأرباح. وغالباً ما تُربط هذه الاستثمارات بشركتين رائدتين هما “إنفيديا” و”أوبن إيه آي”. ورغم المخاوف من صفقات “دائرية” قد تخلق فقاعة، فلا دلائل قوية على اقتراب انفجارها.
“فقاعة إنفاق رأسمالي” وليست “فقاعة تقييمات”
قال توم إساي من “سيفنز ريبورت”: “هل الذكاء الاصطناعي فقاعة؟ ليس بعد، على الأقل ليس لدرجة تجعلني أعتقد أن انفجارها وشيك”. وأضاف: “هذه ليست فقاعة تقييمات مثلما رأينا مع (بيتس.كوم) وغيرها في أواخر التسعينات، بل هي فقاعة إنفاق رأسمالي”.
وأوضح أن حجم الإنفاق على بنية الذكاء الاصطناعي التحتية أصبح جزءاً ضخماً من الاقتصاد الأميركي، وأهم محرك للسوق الصاعدة، مشيراً إلى أن المفتاح هو “تبني” التقنية.
وقال: “متى سيبدأ الناس والشركات باستخدام الذكاء الاصطناعي بالطريقة نفسها التي استخدمنا بها الإنترنت في نهاية المطاف لتوليد الأرباح؟ بالنسبة للأسواق، الإجابة واضحة: كلما كان ذلك أسرع كان أفضل، والوقت يمر”.
وأضافت أولريكه هوفمان-بورشارد من “يو بي إس غلوبال ويلث مانجمنت”: “تشير هذه الصفقات مجتمعة إلى التزامات استثمارية بمئات المليارات، ما يعزز سرعة نشر رأس المال في القطاع وتسارع وتيرة الابتكار”. لكنها لفتت إلى أن القلق من “الاستثمارات الدائرية” واحتمال تشكل فقاعة تقودها الذكاء الاصطناعي يزداد.
مقومات أساسية تدعم استمرار الزخم
ورغم اتفاقها على أن ضخامة الصعود قد تزيد من التقلبات، فإنها ترى أسباباً مقنعة لبقاء المستثمرين منخرطين في موجة الذكاء الاصطناعي.
وقالت: “رغم أن قطاع الذكاء الاصطناعي لا يخلو من المخاطر، فإننا نرى أسباباً قوية للبقاء منخرطين فيه. فبرأينا، ما زال الصعود مدعوماً بأساسيات متينة، وتبنٍّ متسارع، وبيئة كلية مواتية”.
أما دانيال سكلي، رئيس استراتيجية الأسواق في إدارة الثروات لدى “مورغان ستانلي”، فقال إن أحد الأسباب الرئيسة لعدم صحة الحديث عن فقاعة الذكاء الاصطناعي هو أن “المنفقين الرئيسيين لا يزالون يحققون قوة أرباح متزايدة”، موضحاً أن “هذه ليست شركات الدوت كوم قبل ربع قرن التي لم تكن تملك أرباحاً أو حتى نماذج أعمال قابلة للحياة”.
وأضاف: “هذا لا يعني أن السوق لن تتعرض لانتكاسات. قد يرغب المستثمرون في النظر إلى أسهم نمو لديها توزيعات أرباح ذات جودة عالية”. وخلص إلى القول إن هذه الأسهم، التي كانت خارج دائرة الاهتمام منذ فترة، قد تشكّل تحوطاً جيداً إذا شهدت السوق مرحلة تصحيح قريباً.
بيانات تُظهر حذر المستثمرين رغم القمم
رغم تسجيل الأسهم سلسلة من الأرقام القياسية، تُظهر بيانات “جيه بي مورغان تشيس” أن بعض المستثمرين، بمن فيهم صناديق التحوط، لا يزالون متحفظين، إذ بقي “معامل بيتا للأسهم” في صناديق التحوط الكلية، وهو مؤشر على انكشافها على السوق، سلبياً بشكل طفيف رغم تحسنه مؤخراً.
وأضاف الاستراتيجيون أن المراكز المضاربية في العقود الآجلة للأسهم الأميركية باتت قريبة من متوسطها التاريخي الطويل، بعد أن كانت أعلى بكثير خلال عام 2024 والربع الأول من 2025، ما يشير إلى أن التعرض الإجمالي قريب فقط من المتوسط التاريخي وليس مفرطاً.
انتظار موسم الأرباح واتجاهات الربع الأخير
قال فواد رزاقزاده من “سيتي إندكس” و”فوركس.كوم” إن “بعض جني الأرباح الخفيف أمر مفهوم قبل موسم الأرباح، لكن المعنويات لا تزال إيجابية على نطاق واسع”.
أضاف: “يواصل المتداولون النشطون شراء التراجعات، ما يُبقي الزخم حياً. يمكنك رؤية ذلك في التصحيحات الطفيفة وسلسلة الأرقام القياسية المتتالية للمؤشرات الكبرى. في مثل هذا المناخ، يبدو البحث عن فرص هبوطية غير منطقي، فالسوق لا تمنح البائعين على المكشوف الكثير للتعامل معه”.
وبحسب رزاقزاده، فإن الإشارات الأخيرة لا تدل بالضرورة على تصحيح وشيك، لكنها توحي بأن الأسواق ربما تحتاج إلى فترة راحة، إما من خلال تماسك جانبي أو تراجع طفيف.
وأضاف: “الرسالة الأساسية تبقى واحدة: الاتجاه صديقك. إذا كنت تملك مراكز طويلة، فلا داعي للذعر. وإن لم تكن، فالصبر قد يكون الخيار الأفضل: انتظر تراجعاً ثم اشترِ الانخفاض”.
وقالت ليز توماس، رئيسة استراتيجية الاستثمار في “سوفي”، إن السؤال الآن هو ما إذا كان الصعود لا يزال مستمراً مع دخول موسم الأرباح، مشيرة إلى أن توقف صدور البيانات الاقتصادية بسبب الإغلاق الحكومي قد يمنح نتائج الشركات تأثيراً أكبر على اتجاه السوق.
وأضافت أن “إحدى أهم مجموعات البيانات التي يجب مراقبتها هي هوامش الأرباح، في ظل الجدل المستمر حول أثر الرسوم الجمركية على نتائج الشركات”، لافتة إلى أن أقوى الهوامش يُتوقع أن تأتي من قطاعي التكنولوجيا والاتصالات.
وتابعت: “في الختام، يبدو أن موسم أرباح الربع الثالث سيكون قوياً مع تجاوز الشركات التوقعات على نطاق واسع. وإذا تحقق ذلك، فإن الصعود سيجد دعماً إضافياً، ويمكن أن تبقى تقييمات الأسهم المرتفعة على حالها”.
وأشار راين غرابنسكي من “ستراتاغاس” إلى أن السوق ستدخل “ذروة فترة حظر إعادة شراء الأسهم” خلال الأسبوعين المقبلين، قائلاً إن “هذا قد يفتح المجال لفترة ضعف مرتبطة بمخاوف النمو”، لكنه أضاف في المقابل أن “الطلب المؤسسي سيعود بقوة مطلع نوفمبر مع اقتراب نهاية العام”.
وفي الختام، قالت سيرا مالك، كبيرة مسؤولي الاستثمار في “نوفين لإدارة الأصول”، إن الأسهم الأميركية مرشحة لمواصلة الصعود حتى نهاية العام، مدعومة بأرباح قوية، خصوصاً لدى عمالقة التكنولوجيا.
وأضافت في مقابلة مع تلفزيون “بلومبرغ”: “الربع الرابع عادة ما يكون قوياً، خاصة عندما نكون قد حققنا مكاسب كبيرة منذ بداية العام. لذا، الاحتمالات تصب في صالح استمرار هذا الصعود”.