ذكرت دراسة علمية أن معدلات تشخيص حساسية الفول السوداني وغيرها من أنواع الحساسية الغذائية الحادة لدى الأطفال شهدت انخفاضاً ملحوظاً في الولايات المتحدة بعد تطبيق التوصيات الطبية التي تشجع على إدخال الأطعمة المثيرة للحساسية مبكراً في تغذية الرضَّع.
وأوضحت الدراسة، التي أجراها باحثون من مستشفى الأطفال في فيلادلفيا الأميركية ونُشرت في دورية Pediatrics، أن البيانات الجديدة تشير إلى أن هذه الإرشادات -المستندة إلى نتائج دراسة محورية سابقة- بدأت تحدث أثراً ملموساً على الصحة العامة، عبر تقليل معدلات الإصابة بالحساسيات التي كانت تمثّل تهديداً خطيراً لحياة الأطفال في العقود الماضية.
وأظهرت الدراسة أن الحساسية الغذائية من نوع (IgE-mediated)، أي التي تتوسطها الأجسام المناعية IgE وتسبب ردود فعل تحسسية سريعة وشديدة، تؤثر على نحو 4% من الأطفال. وتحدث هذه الحالة عندما يتفاعل الجهاز المناعي للطفل بشكل مفرط مع أحد مكونات الطعام، مثل الحليب أو البيض أو القمح أو الفول السوداني أو المكسرات الأخرى، مما يؤدي إلى أعراض حادة تشمل الطفح الجلدي، وتورم الوجه، وصعوبة التنفس، والقيء، وفي بعض الحالات إلى صدمة تحسسية خطيرة قد تهدد الحياة.
وأكد الباحثون أن المجتمع العلمي بدأ منذ سنوات يشتبه في أن طريقة التعامل مع الأغذية في مرحلة الطفولة المبكرة قد تكون مفتاحاً للوقاية من هذه الأنواع من الحساسية، فبدلاً من تجنب الأطعمة المسببة للحساسية كما كان يُنصح قديماً، بدأت دراسات جديدة تشير إلى أن التعرض المبكر لهذه الأغذية قد يدرب الجهاز المناعي على تقبّلها دون رد فعل سلبي.
وجاءت الدراسة الشهيرة المعروفة باسم (LEAP) في عام 2015 لتؤكد هذه الفرضية لتُحدث ثورة في فهم الوقاية من الحساسية.
حساسية الفول السوداني
رد فعل تحسسي شديد تجاه بروتينات الفول السوداني .
تتطلب تجنب الفول السوداني بشكل كامل لتفادي حدوث تفاعلات خطيرة .
في الحالات الطارئة يجب استخدام حقنة الأدرينالين الذاتية فوراً لتفادي الحساسية المفرطة .
تظهر الأعراض عادة خلال دقائق من تناول الفول السوداني أو أحد منتجاته .
تشمل الأعراض حكة في الجلد وظهور شرى (الأرتيكاريا) أو طفح جلدي واحمرار وتورم حول الفم أو الشفتين .
قد يصاب المريض بسيلان في الأنف أو عطس أو أزيز وصعوبة في التنفس بسبب ضيق أو تورم في الحلق .
يمكن أن تصاحب الأعراض اضطرابات هضمية مثل الغثيان والقيء وآلام البطن والإسهال .
يشعر بعض المصابين بوخز في الفم أو بدوار أو بقلق أو بشعور مفاجئ بالخطر .
الحساسية المفرطة تمثّل أخطر مراحل التفاعل التحسسي وقد تهدد الحياة .
من علامات الحساسية المفرطة صعوبة شديدة في التنفس أو صفير أو تورم في الحلق وصعوبة في البلع أو التحدث .
قد يصاب المريض بإغماء أو بانخفاض حاد في ضغط الدم خلال دقائق من التعرض للمسبب .
يجب تجنب الفول السوداني وجميع الأطعمة التي قد تحتوي على آثاره حتى بكميات ضئيلة .
ينصح بحمل حقنة الأدرينالين الذاتية دائماً واستخدامها فور ظهور أي أعراض خطيرة .
يجب على الأسرة أو المحيطين بالشخص المصاب معرفة كيفية استعمال الحقنة في الحالات الطارئة .
عند حدوث نوبة حساسية شديدة يجب الاتصال بالإسعاف أو التوجه فوراً إلى أقرب مستشفى .
زيارة الطبيب ضرورية لتأكيد التشخيص ووضع خطة علاج تشمل أدوية ومتابعة منتظمة .
يفضل أن يحمل المصاب بطاقة أو سواراً يعرّف حالته التحسسية لتسهيل التعامل في الحالات الطارئة.
توصيات ونتائج
وأثبتت الدراسة الجديدة أن إدخال الفول السوداني في النظام الغذائي للرضَّع الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و11 شهراً ويعانون من الإكزيما الشديدة أو من حساسية البيض، يقلل خطر الإصابة بحساسية الفول السوداني بنسبة بلغت 81%.
وأظهرت المتابعة اللاحقة أن هذا الأثر الوقائي يستمر حتى بعد تجاوز مرحلة الطفولة المبكرة، ما عزز القناعة بأن التعرض المبكر يمكن أن يكون وسيلة فعالة وطبيعية لتقليل معدلات الحساسية الغذائية في الأجيال القادمة.
ودفعت هذه النتائج المنظمات الطبية الكبرى في مجالات طب الأطفال والحساسية والمناعة إلى صياغة توصيات جديدة تستند إلى الأدلة، إذ تم إصدار أولى الإرشادات في عامَي 2015 و2017 لتشجيع إدخال الفول السوداني مبكراً للأطفال الذين يعتقد أنهم الأكثر عرضة للحساسية.
وفي عام 2021، تم توسيع هذه التوصيات لتشمل جميع الأطفال الأصحاء، بحيث يُنصح بإدخال الفول السوداني والبيض والأطعمة المسببة للحساسية في عمر يتراوح بين 4 و6 أشهر، حتى دون وجود تاريخ سابق للحساسية.
وقال الباحث الرئيسي في الدراسة، ستانيسلاف جابريشيفسكي، وهو طبيب وباحث في قسم الحساسية والمناعة في مستشفى الأطفال بفيلادلفيا، إن الجميع كان يتساءل عما إذا كانت هذه التوصيات قد أثمرت بالفعل عن نتائج قابلة للقياس على مستوى المجتمع.
وأوضح جابريشيفسكي: “لدينا الآن بيانات واضحة تشير إلى أن هذه التدخلات الصحية العامة التاريخية بدأت تؤتي ثمارها، وأن أثرها الوقائي بدأ يظهر على نطاق واسع”.
واعتمدت الدراسة على تحليل بيانات السجلات الطبية الإلكترونية من شبكة بحثية كبرى تابعة للأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، تضم مراكز رعاية أولية في ولايات متعددة.
وقارن الباحثون معدلات تشخيص الحساسية الغذائية عبر فترات زمنية مختلفة: قبل اعتماد الإرشادات الجديدة، وبعد تطبيقها، ثم بعد إصدار الإضافات اللاحقة لها.
وأظهرت التحليلات انخفاضاً كبيراً في معدل انتشار حساسية الفول السوداني من 0.79% إلى 0.45% من إجمالي الأطفال المشمولين بالدراسة، كما انخفضت معدلات الحساسية الغذائية من نوع IgE لأي طعام من 1.46% إلى 0.93%.
ويعني ذلك أن نسبة الأطفال الذين يتم تشخيصهم بالحساسية الغذائية انخفضت تقريباً إلى النصف منذ بدء تطبيق سياسات “الإدخال المبكر”.
حساسية البيض.. الأكثر شيوعاً
وبيّنت الدراسة أيضاً أن الفول السوداني لم يعد السبب الأول للحساسية الغذائية بين الأطفال كما كان سابقاً، إذ تراجع إلى المرتبة الثانية بعد البيض، الذي أصبح أكثر شيوعاً كمسبب للحساسية في المرحلة الحالية.
وقدَّر الباحثون أن تعريض نحو 200 طفل للأطعمة المثيرة للحساسية في وقت مبكر من حياتهم يمكن أن يمنع إصابة طفل واحد منهم بالحساسية الغذائية، وهو ما يُعد تأثيراً وقائياً قوياً على مستوى الصحة العامة.
وأكد الفريق البحثي أن هذه النتائج لا تعني أن الاستراتيجية الجديدة تقضي تماماً على الحساسية الغذائية، لكنها تشير إلى انخفاض ملحوظ في التشخيصات، ما يعكس نجاحاً حقيقياً في توجيه الممارسات الغذائية نحو وقاية مبكرة.
ونبّه الباحثون إلى أن استمرار التوعية والتثقيف حول أهمية إدخال الأطعمة المثيرة للحساسية في وقت مبكر يمكن أن يعزز هذه النتائج ويقلل من انتشار الحساسية على نطاق أوسع.
وأشار الدكتور ديفيد هيل، الباحث المشارك وكبير مؤلفي الدراسة، وهو طبيب في قسم الحساسية والمناعة بالمستشفى ذاته، إلى أن “النتائج التي توصلنا إليها تهم الأطباء والآباء على حد سواء”.
وأضاف هيل: “كلما ازداد الوعي والفهم العلمي بين مقدمي الرعاية الصحية والأسر، زادت فرص تحقيق نتائج أفضل. ونعتقد أن جهود التثقيف والدعم المجتمعي يمكن أن تضاعف من هذا التأثير الوقائي في السنوات المقبلة”.
كما أوضح الباحثون أن الخطوة التالية في هذا المجال العلمي هي فهم أكثر دقة لتفاصيل “كيف؟ ومتى؟ وبأي كمية؟” يجب إدخال الأطعمة المثيرة للحساسية.
فبينما تؤكد النتائج الحالية أن التوقيت المبكر له أهمية واضحة، فإن التفاصيل المتعلقة بعدد المرات والكميات المثلى لا تزال بحاجة إلى بحث إضافي لتحديد النظام الغذائي الأكثر فاعلية في بناء المناعة الطبيعية ضد الحساسية.
“تسامح مناعي طبيعي”
وفسّر الباحثون التراجع في معدلات الحساسية بأنه مؤشر على أن الجهاز المناعي للأطفال الذين يتعرضون مبكراً للأطعمة المثيرة للحساسية يطوّر “تسامحاً مناعياً” طبيعياً، أي أنه يتعلم التمييز بين المواد الضارة وتلك المألوفة دون إثارة رد فعل مبالغ فيه، ويُعد هذا المفهوم أحد أهم التطورات الحديثة في فهم آليات الحساسية، إذ يغيّر النظرة القديمة التي كانت ترى في كل تعرض مبكر خطراً محتملاً.
وأشار الفريق إلى أن التحسن الملحوظ في نتائج الوقاية من الحساسية لا يعني الاستغناء عن الحذر الطبي، فهناك دائما أطفال لديهم استعدادات وراثية خاصة قد تجعلهم أكثر حساسية، ما يستدعي إشراف الطبيب عند تطبيق هذه الممارسات.
وقال الباحثون إن الانخفاض العام في التشخيصات يشير إلى أن الفوائد على مستوى السكان تفوق المخاطر المحتملة، خاصة عندما يتم اتباع الإرشادات الطبية الدقيقة.
وأكدت الدراسة أن انتشار التوصيات المبنية على الأدلة العلمية أسهم في تقليل عبء الحساسية الغذائية ليس فقط على الأطفال، بل على أنظمة الرعاية الصحية التي تتحمل تكاليف علاجها ومتابعتها، فالحساسية الشديدة ليست مجرد حالة طبية بسيطة، بل حالة مزمنة تلقي بظلالها على حياة الطفل وأسرته، وتؤثر على النظام الغذائي والمجتمعي بالكامل.
كما أظهرت النتائج أن تقليل معدلات الحساسية يعني أيضاً تقليل حالات الطوارئ الناتجة عن الصدمات التحسسية، وتقليل القلق الدائم الذي يرافق الأسر التي لديها أطفال يعانون من هذه الحالات، وبذلك تصبح الوقاية المبكرة خطوة إنسانية بقدر ما هي علمية، لأنها تمنح الأسر شعوراً بالأمان تجاه تغذية أطفالهم.
ونوّه الباحثون إلى أن تجربة الولايات المتحدة في هذا المجال قد تكون نموذجاً يُحتذى به في بلدان أخرى تعاني من معدلات مرتفعة للحساسية الغذائية، فإدخال الفول السوداني والبيض والأطعمة المسببة للحساسية في عمر الرضاعة يمكن أن يكون وسيلة بسيطة ومنخفضة التكلفة لتقليل انتشار هذه الحالات عالمياً.
ورأى العلماء أن نجاح هذه التجربة يعيد التأكيد على الدور الحيوي للبحوث السريرية في توجيه السياسات العامة، حيث يترجم الاكتشاف العلمي إلى تطبيق عملي ملموس، فالدراسة الجديدة لا تقدم فقط إحصاءات حول انخفاض الحساسية، بل تقدم نموذجاً لكيفية تفاعل الطب الحديث مع المجتمع في سبيل بناء جيل أكثر صحة ومناعة.
واختتم الفريق العلمي دراسته بالتأكيد على أن “الإدخال المبكر” للأطعمة المثيرة للحساسية يحمي الأطفال من أمراض مميتة لا ينبغي أن يفهم كإجراء عشوائي، بل كاستراتيجية علمية مدروسة تعتمد على الدليل والمراقبة الطبية، وأن المستقبل سيشهد مزيداً من الأبحاث حول الجرعات والممارسات المثلى التي تضمن أقصى حماية ممكنة ضد الحساسية الغذائية، مع الحفاظ على أمان الرضع وصحتهم.