حرب "GPS".. كيف تحول نظام تحديد المواقع من خدمة البشرية إلى خطر يهدد الأمن العالمي؟

لم يعد نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مجرد وسيلة لمعرفة الطريق، بل أصبح شرياناً رئيسياً يغذي قطاعات حيوية في الاقتصاد العالمي، من الطيران والملاحة البحرية إلى المصارف والهواتف الذكية، ولكن النظام تحول مؤخراً من نظام لخدمة البشرية إلى سلاح عسكري حاسم يستخدم في الحروب الحديثة.
ومع تصاعد التوترات والصراعات حول العالم، خاصة في الفترة الأخيرة بين إيران من ناحية وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى، برزت ظاهرتي “التشويش” و”التلاعب” بهذا النظام كمظهر جديد من مظاهر الحروب الحديثة، بما يحمل في طياته مخاطر جمّة على الأمن المدني والعسكري معاً.
1) ما هو نظام “GPS” ولماذا أصبح حيوياً في حياتنا؟
نظام تحديد المواقع العالمي  ويرمز له (GPS)، هو شبكة من الأقمار الصناعية الأميركية توفر معلومات دقيقة عن الموقع والوقت في جميع الظروف الجوية، وفي أي مكان على الأرض. 
النظام الذي لم يُتح للاستخدام المدني الكامل إلا في عام 2000، أصبح جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، إذ يعتمد أكثر من 4 مليارات مستخدم حول العالم على الإشارات الصادرة من أقماره الصناعية لتحديد الموقع والملاحة والتوقيت.

يوجه نظام (GPS) الصواريخ إلى أهدافها والطائرات إلى وجهاتها، وتعتمد البنوك على مواقيته الدقيقة لمعالجة المعاملات. وهو نظام شديد الأهمية لشبكات الطاقة والهواتف الخلوية وخدمات الطوارئ وتطبيقات سيارات الأجرة والوجبات الجاهزة وتطبيقات التعارف.
وقد يكلف انقطاعه لفترة طويلة أكثر من مليار دولار في اليوم. ومع ظهور الطائرات بدون طيار والتقنيات الجديدة مثل السيارات ذاتية القيادة، سيصبح نظام تحديد المواقع العالمي أكثر أهمية، وفق مقال نشرته “بلومبرغ”. 
ولكن هذا النظام أصبح معرضاً للتشويش وخاصة في المناطق التي تشهد حروباً وعمليّات عسكرية، وأبرزها منطقة الشرق الأوسط، وشرق البحر الأبيض المتوسّط، والحدود الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى المنطقة المحاذية لبحر البلطيق.
2) كيف يحدث التشويش؟ وما الفرق بينه وبين التلاعب؟
التشويش ليس مجرد مشكلة تقنية، بل هو جزء من إستراتيجية متطورة تُستخدم لتعطيل العمليات العسكرية وحماية المواقع الحساسة، وهو تحدٍ أمني معقد يهدد سلامة الملاحة الجوية والأمن العالمي. 
بدأ مصطلح التشويش على نظام الملاحة العالمي في الحروب بالظهور أثناء الحرب الروسية الأوكرانية، ومؤخراً استخدمته إسرائيل بالتزامن مع عملياتها العسكرية على قطاع غزة لتحييد الخطر القادم من غزة وجنوب لبنان وإيران بأسلوبين، التشويش والتلاعب.

يعتبر التشويش أمراً سهلاً للغاية، لأنه لا يتطلب سوى إشارة ضعيفة جداً لتعطيل مُستقبِل نظام تحديد المواقع العالمي “GPS”، ويمكن شراء الأدوات القادرة على إجراء هذه العملية عبر الإنترنت، بحسب مجلة “بوليتيكو”.
يعتمد الأسلوبان (التشويش والتلاعب) على استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات التي تتطور باستمرار مع التقدم التكنولوجي، إذ تعمل من خلال مولدات جامر (Jammers) أو برامج الكومبيوتر أو الأقمار الصناعية أو الليزر، وجميعها تقوم ببث إشارات قوية مزيفة تتداخل مع الإشارة الأصلية أو تزورها أو تعطلها.
يحدث التشويش عن طريق إغراق موجات “GPS” بموجات مشابهة لها أو عبر موجات أقوى منها بالتردد، فيتم التشويش عليها بنفس الطريقة، ويحصل عندها الخطأ في إشارة GPS التي تتوجه إليها الهواتف والأجهزة. والتشويش يتم عبر منصات موجودة في البحر أو اليابسة، بواسطة أجهزة إلكترونية متطورة. ومن شأن التشويش أن يعرض الملاحة الجوية، وخاصة فيما يخص توجيه الطائرات إلى خطر على السلامة المدنية والعسكرية. 
أما تقنية التلاعب فهي أكثر خبثاً من التشويش، لكونها أكثر تعقيداً وتضليلاً إذ تُرسل إشارات مزيفة تُحاكي الإشارات الأصلية، لكنها تحمل معلومات خاطئة وتقوم ببث معلومات مضللة تحرف الطائرات المسيرة عن مسارها، عكس التشويش الذي يعطل قدرة أجهزة الاستقبال على فك شفرة الإشارات الأصلية بشكل صحيح.
لكن التلاعب يتطلب استخدام أجهزة متطورة لمحاكاة إشارات الأقمار الصناعية مع بيانات مضللة بهدف خداع أجهزة الاستقبال. ولضمان نجاح هذه العملية، يجب ضبط الإشارات المزيفة بدقة كبيرة من حيث التوقيت والمحتوى لتكون أقوى من الإشارات الأصلية، مما يجعل جهاز الاستقبال يعتمد على المعلومات المزيفة.
وتلجأ بعض الدول إلى هذه التقنيات لأسباب عسكرية وأمنية بحتة، وفي سياق النزاعات في الشرق الأوسط يُستخدم التشويش لحماية المنشآت الحيوية ومنع توجيه الأسلحة الدقيقة، مثل الطائرات المسيرة والصواريخ أو لأغراض استخباراتية مثل جمع المعلومات وتضليل الأجهزة الاستخباراتية المعادية.
3) هل حدث تشويش متعمد من قبل على الـ”GPS” في الشرق الأوسط والعالم؟
حوادث التشويش على إشارات الـGPS” في المنطقة والعالم عديدة لكن الموثق منها قليل نسبياً، وكانت أشهر واقعة على الصعيد الإقليمي عندما تقدم لبنان في يوليو 2024، بشكوى ضد إسرائيل إلى الأمم المتحدة بسبب تشويشها على أنظمة “GPS”.
وقالت وزارة الاتصالات اللبنانية في بيان لها حينذاك إنها “تقدمت عبر وزارة الخارجية بشكوى ضد إسرائيل إلى كل من الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات”. كما أوضحت أن الشكوى تتعلق بـ”التشويش الإسرائيلي الذي يطال بشكل أساسي أنظمة جي بي إس في لبنان”. وقد أبلغ العديد من السكان أن موقعهم على الخريطة على الإنترنت يظهر في مطار بيروت بينما كانوا في الواقع في مكان آخر في العاصمة.
واشتكى أشخاص في لبنان أن تطبيقات تحديد الموقع تظهر موقعهم في مدينة رفح بغزة، على بعد حوالي 300 كيلومتر أو في شرق لبنان بالقرب من الحدود السورية، عندما كان بالفعل في بيروت.
واتخذت إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، إجراءات لتعطيل وظائف نظام تحديد المواقع العالمي، وقال الجيش الإسرائيلي إنه عطل نظام تحديد المواقع “بطريقة استباقية لتلبية احتياجات عملياتية مختلفة”. كما أقر الجيش الإسرائيلي بحجب إشارات نظام تحديد المواقع في إسرائيل كإجراء دفاعي في أعقاب الهجمات التي شنتها “حماس” في 7 أكتوبر 2023، والهجمات الصاروخية التي شنتها إيران في أبريل 2024. واشتكى سكان إسرائيل، والأردن، ولبنان من أن التشويش جعل من المستحيل استخدام تطبيقات سيارات الأجرة، أو الوجبات الجاهزة، أو تطبيقات التعارف.
في نوفمبر الماضي، اتهمت وزارة الدفاع بكوريا الجنوبية، جارتها كوريا الشمالية بالتسبب في تعطيل إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) المستخدم في الطائرات والسفن الكورية الجنوبية، واصفة ذلك بأنه استفزاز جديد عبر الحدود، وفق “بلومبرغ”. 
وأفادت الوزارة، في بيان حينذاك، بأن التشويش الذي بدأت كوريا الشمالية في تنفيذه تسبب في اضطراب حركة عدة سفن كورية جنوبية وعشرات الطائرات التجارية.
كما أبلغت طائرات مدنية تُحلّق في أجواء منطقة البلطيق عن عدد متزايد من إشارات “مفقودة أو مزيفة” لنظام تحديد المواقع العالمي GPS، فيما يُنظر إلى روسيا على أنها المسؤول المحتمل عن ذلك الأمر حسبما أوردت مجلة “بوليتيكو” في نهاية مارس 2024. 
4) ماذا عن استخدام التشويش في الحرب الإيرانية؟
من أبرز الآثار الحالية للنزاع على حركة الشحن هو التشويش الواسع على إشارات نظام تحديد المواقع “جي بي إس”، حيث تحول إلى استراتيجية عسكرية خطيرة لتضليل الأطراف المتنازعة في الصراع، وأثر سلباً على نحو ألف سفينة تمر يومياً في مضيق هرمز والخليج العربي منذ بداية الحرب الإيرانية الإسرائيلية في 13 يونيو الحالي، وفق “بلومبرغ”.

وقال الرئيس التنفيذي لشركة “شل” العالمية وائل سوان: “ما يبعث على القلق بشكل خاص في الوقت الحالي هو التشويش الذي يحدث”، مشيراً إلى تعطيل إشارات الملاحة البحرية في الخليج العربي ومحيطه. ولفت أن شركته “تتوخى أقصى درجات الحذر” إزاء شحنات النفط التي تمر عبر الشرق الأوسط بسبب النزاع.
اقرأ أيضاً: كيف تستطيع إيران نشر الفوضى في تجارة النفط بدون إغلاق مضيق هرمز؟
وأظهرت بيانات منصة “ستار بورد ماريتايم إنتليجنس” (Starboard Maritime Intelligence) و”بلومبرغ” أن السفن تبحر في المنطقة في خطوط مستقيمة يستحيل سلوكها، أو تتخذ مسارات متعرجة في المياه، أو تبدو كأنها قرب الساحل. ويؤثر هذا الخلل الفني على ناقلات النفط، وسفن الشحن، وزوارق السحب، ومراكب الصيد، وغيرها منذ الجمعة الماضي، ويؤدي إلى تزايد الاعتماد على الرادارات، والبوصلات، والرؤية المباشرة، ما يرفع احتمال وقوع حوادث تصادم.
كما حذر مركز المعلومات البحرية المشترك، وهو مجموعة عمل بحرية دولية تراقب المنطقة، الأحد من وجود حالات “تشويش” شديدة على الإشارات الصادرة عن ميناء “بندر عباس” الإيراني، لكنه لفت إلى عدم وجود مؤشرات على إغلاق محتمل لمضيق هرمز، الذي يمر عبره أكثر من ربع تجارة النفط العالمية.
وكررت هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية التحذيرات يوم الإثنين، وأضافت أن التشويش يتزايد في الخليج، ويؤثر على كيفية إبلاغ السفن عن موقعها عبر الأنظمة الآلية. 
5) ما التداعيات التي يمكن أن تنتج عن التشويش أو التلاعب بالـ”GPS”؟
تسببت التداعيات الناجمة عن تنامي عمليات التلاعب بإشارات الملاحة فيما يعرف باسم “حرب أنظمة تحديد المواقع (GPS)”، في تخريب الهواتف الذكية والطائرات، والسفن المدنية في 3 قارات، حسبما ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية في منتصف مايو 2024. 
قالت “فاينانشيال تايمز” إن تحليلها للبيانات الواردة من موقع “فلايت رادار 24” (Flightradar24)، المختص بتتبع حركة الطائرات، أظهر أن ما يقرب من 40 مليون شخص عاشوا في مناطق بها إشارات تحديد مواقع غير موثوقة. 
لفتت الصحيفة إلى أن هذه المناطق شملت العاصمة التركية أنقرة، حيث تتمركز قواتها المسلحة، ومساحات من ساحل البحر الأسود، وعدد من أكبر المدن العراقية، وحدود ميانمار التي مزقتها الحرب. كما أثر هذا التشويش القوي على مناطق يبلغ عدد سكانها مجتمعة 110 ملايين نسمة، بما في ذلك مدن تتواجد بها منشآت عسكرية؛ مثل سان بطرسبرج في روسيا، ولاهور في باكستان، وبيروت في لبنان، بحسب الصحيفة. 
ونقلت عن توماس ويثينجتون المحلل في مؤسسة “المعهد الملكي للخدمات المتحدة البحثية” قوله إن “الدافع الرئيسي هو الرغبة في حماية الأهداف العسكرية”. فيما قالت المنظمة الأوروبية لسلامة الطيران “يوروكونترول”، إن حوادث التشويش تنامت بنسبة 2000% بين عامي 2018 و2021.
6) كيف تتصرف إذا شعرت بوجود تشويش على نظام “GPS” الخاص بك؟
في حال شعرت بوجود تشويش على جهازك، يُنصح باتباع الخطوات التالية:
أولاً، إذا لاحظت أن الموقع الظاهر على خريطتك غير دقيق أو يقفز بشكل غير منطقي، فعّل وضع الطيران مؤقتاً ثم أعد تشغيل النظام، فقد يكون الخلل ناتجاً عن تداخل إشارات مؤقت.
ثانياً، ارجع إلى أدوات ملاحة تقليدية مثل الخرائط الورقية أو البوصلة، وكن مستعداً لاستخدام المعالم الطبيعية من حولك في تحديد الاتجاهات.
أما في حال كنت تقود مركبة أو سفينة في منطقة بحرية، فمن الضروري الاعتماد على أنظمة ملاحة احتياطية مثل الرادار أو إشارات “AIS” البحرية، والتواصل مع أقرب مركز مراقبة ملاحي للحصول على الإحداثيات الموثوقة.
وأخيراً، إذا كنت تعمل ضمن طاقم تقني أو عسكري، فلابد من الإبلاغ الفوري عن الواقعة إلى الجهات المختصة لرصد الإشارات وتحليل مصدر التشويش، إذ قد يكون جزءاً من نشاط عدائي أوسع.