طريق إجباري.. دراما خارج الطريق
في زمن تتفجر فيه معاناة اليمنيين بكل تجلياتها السياسية والإنسانية والاقتصادية، تأتي الدراما باعتبارها وسيلة فنية لمساءلة الواقع وتفكيكه أو حتى توثيقه. لكن مسلسل طريق إجباري المعروض على قناة بلقيس بدا وكأنه يهرب من هذا الواقع، أو يعامله كأنه غير موجود، بل إن العمل بدا في كثير من جوانبه وكأنه منتج/ مكتوب قبل عشرين عاما، ثم جرى بثه الآن، دون أن يحدث نفسه أو يعيد قراءة السياق الذي وضع فيه. هذا العمل يعد أول تجربة درامية لقناة بلقيس، التي كانت معروفة بطابعها الإخباري والسياسي، ولم تدخل السباق الدرامي من قبل. وقد علق كثيرون آمالا على دخول بلقيس لهذا المجال، متوقعين أن تحدث نقلة نوعية، خاصة أن العمل وصف بأنه الأضخم إنتاجا. لكن النتيجة كانت أقل من عادية. القناة التي كانت تبث في فترة من الفترات ما يصل إلى ثمان نشرات أخبار، واثني عشر موجزا، وبرنامجين سياسيين يوميا، بالإضافة إلى برامج فكرية وثقافية أسبوعية، دخلت مجال الدراما لكنها لم تدخل بنفس الزخم أو القدرة على التحدي. ويبدو أن المجال لا يزال جديدا على القناة، وأن الطريقة التي خاضت بها التجربة تقليدية جدا. المسلسل مأخوذ عن قصة كتبها صحفي مثقف لكنه ليس روائيا، وقد تكون ميزته التفضيلية الأبرز في هذا العمل هي موقعه الإداري فيه. صاحب القصة اختار اسما مستعارا هو “أحمد يحيى”، ربما لفصل مساريه المهنيين أو تجنبا لربط اسمه المهني بعمل قد لا ينجح. في اليمن، لا تزال معظم الدراما تكتب داخل مكاتب مديري القنوات، وكأن لا أحد في البلاد قادر على تخيل قصة إلا هم. وكأن هذه القنوات وجدت لتحقيق أحلامهم في إنتاج أعمال درامية تعرض لمرة واحدة، ثم تختفي في الذاكرة، كما تختفي أوراق الاجتماعات. القصص تلفق غالبا من قبل شخصيات قيادية انتهازية، لا تملك أدوات الروائي، ولا يمكنها نفسيا أن تتيح هذا المجال لأهله من الكتاب والقصاصين الحقيقيين. السكريبت الأصلي للمسلسل كان مكونا من 1300 مشهد، جرى اختصارها إلى 800 مشهد فقط، ما أثر بشكل واضح على البناء الدرامي والتسلسل المنطقي للأحداث. يحسب للمسلسل أنه حاول مناقشة قضايا اجتماعية، وإن كانت من الماضي، في وقت تعج فيه الشاشات بأعمال لا تناقش شيئا على الإطلاق: لا زمان، ولا مكان، ولا قضية، ولا حبكة. بعض هذه الأعمال أقرب إلى اللهو المصور، لا هدف لها إلا ملء الفراغ، فيما يتورط البعض الآخر في الترويج لخطابات الكراهية والانقسام الطائفي. المسلسل يتناول قضايا مثل حرمان الفتيات من التعليم، وزواج القاصرات، وهي بلا شك قضايا حساسة ومؤلمة، لكنها ليست هي أولويات المجتمع اليمني اليوم، وليست في قلب معاناته اليومية، فلم يعد الهم الأكبر لدى الأسرة اليمنية هو تعليم البنت، بل البقاء على قيد الحياة. آلاف المدارس دمرت، والمرتبات مقطوعة منذ سنوات، والطرق مقطوعة، والمنازل مهجورة، والمخيمات مكتظة، والنساء يلدن في خيام بلا كهرباء. كل هذا غائب تماما عن عالم طريق إجباري. بدل أن يكون المسلسل لسان حال اليمني اليوم، جاء كنسخة بصرية من تقارير منظمات المجتمع المدني في أوائل الألفية، لا شيء في العمل يتصل بانقطاع المرتبات، أو بسحق الطبقة الوسطى، أو بسيطرة طبقة جديدة من تجار الحرب على المجتمع. لم يتطرق إلى أمهات المخفيين قسريا، ولا إلى الدعارة الاضطرارية، أو تجنيد الأطفال، أو اضطرار آلاف النساء لقطع عشرات الكيلومترات في طرق وعرة فقط للوصول إلى مركز صحي أو مدرسة. الحوار في كثير من الحلقات يبدو مرتجلا، تائها، يخلو من الإيقاع الداخلي، ولا يؤدي إلى تصعيد درامي حقيقي، كثير من المشاهد تبدأ وتنتهي دون مقدمات أو مبررات، وكأنها اسكتشات منفصلة جمعت في منتج واحد. أما الأداء التمثيلي، فهو في كثير من الأحيان خافت، بارد، يفتقر إلى التقمص والانغماس، او مبالغ اكثر من اللازم، او غير متناسب مع إمكانيات الممثل، شكل الوجه، نبرة الصوت، . الخ.. بعض الممثلين بالكاد يحفظون حواراتهم، ويؤدونها كأنهم يقرؤونها لأول مرة، ما يجعل التجربة فاقدة للحيوية والصدق، ورغم ذلك، يسجل للممثلين الجدد تقديم أداء جيد وواعد، على عكس بعض الممثلين المخضرمين. التصوير بدوره يعاني من مشكلات فنية كثيرة، الكاميرا مهزوزة، مواقع التصوير مكررة، واللقطات ضيقة لا تتيح تنفسا بصريا. الغريب أن المخرج المصري، وهي تجربته الأولى في اليمن، اختار هذا النمط من التصوير المهزوز عن قصد، وقال إنه يعرف أنه لن يريح الجمهور لكن الجمهور سيتعود عليه، وهذا تصريح غريب، خصوصا في ظل التنافس العالمي على تقديم أنظمة تصوير مستقرة واحترافية، يمكن وصف هذا الأسلوب بأنه تصوير من وجهة نظر الذبابة أو البعوض! تم تصوير المسلسل خلال عشرين يوما فقط، وهو رقم شديد الضغط بالنسبة لعمل درامي يفترض أن يحتوي على مشاهد متنوعة وأداء متقن؛ ويبدو أن كثيرا من المشاهد صورت مرة واحدة فقط دون إعادة، رغم احتوائها على أخطاء واضحة، مثل مشهد خطبة الدكتور موسى الذي يقرأ فيه الفاتحة، فيقوم الجميع بمسح وجوههم، بينما يقوم هو بمسح مؤخرة رأسه. لا تخلو بعض المشاهد من مآخذ حقوقية وأخلاقية، مثل مشهد اختطاف غانم بأمر من الدكتورة والتحقيق معه بالإكراه خارج القانون، أو مشهد توجيه الغاضبين لسحل حارث رغم أنه كان مصابا بطلق ناري. هذه المشاهد تثير أسئلة حول الرسائل الأخلاقية التي يسوقها العمل، ومدى احترامه لمنظومة العدالة وحقوق الإنسان، بل إنها تقدم وعيا هابطا بالقانون، يسيء لسمعة القناة ويمس بتاريخ ومكانة ممولتها ومالكتها، وهي ناشطة حقوقية كبيرة وثائرة على الظلم والاستبداد، ومناصرة للقضايا العادلة في اليمن والعالم. أن ينتج باسمها عمل يجمل الاختطاف، ويشرعن السحل، فهذه مفارقة قاسية. في الحلقة قبل الأخيرة، وهي التي عرضت آخر ليالي رمضان، يختار صناع العمل نهاية صادمة تتلخص في مشهد قتل شخصية الشرير على يد ابنه المضطرب، تتزامن مع موجة غضب شعبي تقودها طبيبة كان يفترض أنها تمثل صوت الضمير والعدالة، تتطور الأحداث بسرعة إلى سحل المصاب بأمر مباشر منها، ثم نهب منزله.. هذا التحول الحاد لا يكتفي بتقويض فكرة العدالة القانونية، بل يشرعن الفوضى والانتقام بوصفهما وسيلة مشروعة لإنهاء الصراع. ما جرى في هذا الختام يعد إخفاقا أخلاقيا وحقوقيا خطيرا؛ فبدلا من ترسيخ قيمة المحاسبة القانونية، انحرفت القصة نحو تصوير انتهاكات مضادة بقيادة الضحايا أنفسهم، ما يشرع لممارسة العنف المضاد ويشوه جوهر فكرة الإنصاف.. هذا يبعث برسالة مفزعة في بيئة تعاني أصلا من هشاشة مؤسسات العدالة، ويغذي الإحباط العام من جدوى القانون. هذا النقد لا يأتي من موقع الخصومة أو التشفي، بل من موقع المحبة والعشم؛ فالمسلسل عرض على قناة بلقيس، وهي قناة ذات حضور نضالي معروف، ومالكتها شخصية يحسب لها الكثير من المواقف الحقوقية والمبدئية.. هذا التاريخ يفرض مسؤولية أخلاقية أكبر، ويجعل أي عمل ينتج تحت هذا الاسم خاضعا لمجهر النقد الصارم، لا كرها، بل لأن سقف التوقعات يكون أعلى حين يتعلق الأمر بمن حملوا راية التغيير والدفاع عن المظلومين. إذا كانت قناة بلقيس تنوي دخول المجال الدرامي مجددا، وهذا ما أتوقعه، فلا شك أنها ستتلافى أخطاء التجربة الأولى؛ فهناك كثير من الكفاءات اليمنية التي يمكن التعاون معها، من كتاب وكاتبات قصص، إلى كتاب سيناريو، إلى مخرجين ومصورين؛ وإن كانت كاتبة سيناريو طريق إجباري، يسرى عباس، قد خاضت تجارب سابقة ناجحة وأكثر حضورا، فإن العودة إلى أسلوب الكتابة ضمن ورشة كتابة جماعية قد تكون خيارا أكثر فعالية وإتقانا، لضمان التوازن بين البناء الدرامي والحوار وتعدد الشخصيات. اليمن اليوم ليس مجتمعا تقليديا محافظا فقط، بل مجتمع منكوب سياسيا واقتصاديا وإنسانيا؛ ملايين يعيشون على المساعدات، وملايين نزحوا، وعشرات الآلاف من الضحايا سقطوا، والمؤسسات انهارت، والانقسام السياسي أنتج واقعا من الفوضى والاضطراب، ومع ذلك، لا نكاد نجد مشهدا واحدا في المسلسل يحيل إلى هذا الواقع المعقد. كيف يمكن لدراما تبث في 2025، أن تتجاهل هذه اللوحة الكارثية وتعيد إنتاج قوالب وعظية من التسعينيات؟ ما نحتاجه اليوم في اليمن ليس مجرد أعمال درامية تنتج لمجرد الوجود على الخارطة الرمضانية، بل أعمال تليق بحجم الألم، وتستوعب تعقيدات الواقع الذي نعيشه. دراما تمتلك الشجاعة لاختراق المسكوت عنه، والقدرة الفنية على تحويل المعاناة اليومية إلى مادة جمالية تفتح النقاش وتعمق الفهم. باعتقادي فإن الدراما ليست حشوا للفراغات في ساعات القنوات الفضائية، أو مجالاً للسباق والمنافسة على ساعة الذروة الرمضانية، ولا هي أيضا نشرة تثقيفية بصيغة روائية، كما لا يفترض أن تكون منصة لتجريب الأحلام الشخصية لمن يملكون السلطة داخل القنوات؛ إنها فعل إبداعي يحتاج إلى حرية، إلى معرفة، إلى تعاون بين أصحاب الاختصاص، وإلى ثقة بأن القصص الحقيقية لا يكتبها الإداريون بل الفنانون. وإذا كانت التجربة الأولى لقناة بلقيس قد جاءت دون المستوى، فهذا لا يعني أن تتراجع، بل أن تتقدم بخطى أوسع وأكثر احترافية، وأن تؤسس لتقليد درامي حقيقي ينتمي لليمن، ويعبر عنه. * (المصدر أونلاين) كلمات مفتاحية#مسلسل طريق إجباري#اليمن#قناة بلقيس#الإنتاج الدرامي#مسلسلات رمضان شارك الخبر